ما الذي بوسع الشعر أن يفعله في كرةٍ أرضيةٍ يحتلـّها النثر؟

النثر الوظيفيّ الذي يوزّع الأدوار ويخطط للنتائج بآليةٍ صارمة ومنطقٍ حساني يفترض أن قيمة كلّ فعلٍ تحددها نتائجه العملية المباشرة، بما يخدم مسار هذه الآلة الهائلة التي يـُحشر فيها الانسان والطبيعة والمادة ، آلةٌ هائلة، لكنها عقيم، رغم الترويج "النثري" لوهم الانتاج والحيوية والتجدد. الأدوار موزّعةٌ بصرامة من أجل مواصلة الانتاج وتجديده، لكن في إطار المنظومة النثرية التي هي العقم ذاته ..

 

الشعر حوار الذات والكون، لكنّ هذا الحوار يتشوّش يفقد صفقاءه، ولا يصل، ما إن يمرّ بتشابكات الواقع "النثرية" . إن الحوار الشعريّ لن يتم إلا بأن تتفتح التفاصيل اليومية على الشعريّ الكامن فيها .. على المنابع الغامضة التي يصرّ النثر بسلطته على ردمها، ودفنها، إخفائها عن عيون الشعر .. بهذا التفتح يتحول الواقع إلى برزخٍ تلتقي فيه تأوهات الذات، رغائبها، تمرداتها، بأسئلة الكون وحكمته البالغة، لا يعود الواقع حاجزاً، بل برزخاً، لا يعود مركز تشويشٍ، بل مساحةً للحوار ..

 

هذه هي المهمة الصعبة التي على الشاعر تأديتها .. شعرنة الواقع .. وهي مهمةٌ لا تتمّ إلا عبر تحرير اللغة من وظيفيتها. بتوظيفه للغة هيمن النثر على الواقع، وبتحريره للغة يستعيد الشعر مكانه في مسرح الوجود.

 

*        *       

يرى البعض أن قصيدة النثر بدأت تحلّ محلّ السائد في الشعر العربي، أي أصبحت هي نفسها سائداً جديداً ، وربما عدّها البعض موضةً .. لكننا نراها تعبيراً حتمياً عن أزمة الذات (العربية؟) المتطلعة إلى الانعتاق من هزائمها وقيودها ومن هيمنة الهياكل القامعة بكلّ أشكالها..  لكن (قصيدة النثر) صارت بالفعل سائداً جديداً ، فكيف يفلت الشاعر الحديث من سلطة السائد الذي خلقه هو ..؟

 

في رأيي ان الشاعر ليس أمامه سوى التشبّث بخياره .. ليس فقط بأن يستمرّ في كتابة الشكل الشعريّ الذي اختاره، بل ، وهذا الأهمّ ، أن يظلّ متواصلاٍ مع الشروط التي أنجبت هذا الشكل.. أن يظلّ واعياً كلّ الوعي لخياره، وصادقاً كلّ الصدق في تجرته. إنني أستمر بالكتابة بهذا الشكل لا لأنه صار سائداً، بل لأنّ الحاجة إليه أصبحت أشد، حاجة الذات المثقلة التي تريد أن تتخفف من اعباء الماضي والحاضر، وحاجة المشهد المتشظي إلى مرآةٍ يمكنها أن تعيد إليه ملامحه، هذا المرآة هي النصّ الشعري الجديد الذي يبدأ من التشظي، من الفوضى، من الانهيار..

 

*        *        *

الشعر مشروعٌ فرديٌ بامتياز، إنه أكثر الأفعال الحياتية فرديةً وألصقها بالذات، لذلك يصعب –بالنسبة لي- الحديث عن جماعةٍ شعريةٍ أو حتى جيلٍ شعري إلا بقدر ما يمكن الحديث عن الأرخبيل بوصفه وطناً وليس فقط مجموعة جزرٍ منفصلة، هذا هو فهمي للجماعة أو للجيل.. أرخبيلٌ من الجزر، أرخبيلٌ من الذوات المتجاورة يجمعها مشهدٌ مشتركٌ ، مساحةٌ مشتركة للمكابدة، للحلم، للصراخ .. 

بهذه الرؤية أنظر إلى التجربة التي أنتمي –بالضرورة التاريخية- إليها، انتمي إلى حركيتها وتفاعلاتها الداخلية، لكن عملية الكتابة تبقى نتاج المكابدة الذاتية لتلك التفاعلات .. ما يزيد الأمر تعقيداً أن الجيل الذي أنتمي إليه هو أكثر الأجيال –في الشعر العراقي- تشتتاً وضياعاً .. فقد بدأتْ تجربتنا تتبلور في النصف الثاني من الثمانينات، ولم يسعفها الوقت لتطرح نفسها في الساحة الأدبية، إذ سرعان ما حدث الشتات الكبير .. كأنّ انفجاراً بعثر الأرخبيل في بحار المنافي ,,لكن سنوات التكوين تلك ما زالت تمدّنا بجذوة الألم الأول، الصرخة الأولى .. إننا ننتمي إلى الشتات، إلى الفوضى والانهيار، وهذه هي رسالتنا إلى القارئ ؛ أن يقرأ في نصوصنا هذا الانهيار وتلك الفوضى ...  

<< نشرتٌ في العدد الأول من مجلة "واحد" ، صيف 1997 >>