شعلان شريف اسم لفت اليه الانظار منذ اولى نصوصه التي نشرها داخل العراق في ثمانينيات القرن الفائت، حجزه زهده الخجول ( الذي هو علامة فارقة لكل شاعر يستحق اسمه) عن ان يزاحم صغار المتكلمين الذين ملأوا نهاراتنا هناك ضجيجاً، كما يملأون ليالي منافينا الان صراخاً وادعاءً.

لم يمنحه الوطن فسحة لقول ألمه، فأسلمه الى تيه صحراوي قاسٍ، وهناك عكف على انضاج مشروعه الشعري اللافت ، قبل ان تستقر به قدماه في المنفى الأوربي، حيث أصدر مجموعته البكر ( شتاء الأعزل).

اسهم مع مجموعة من شعراء العراق في اصدار مجلة ( واحد ) ، ثم أصدر مجلة ( غجر ) .

وظيفة الشعر كما يراها شعلان شريف، أجيال الشعر العراقي، وبعض سمات شعره هو، كانت مادة الأسئلة التي تقدمت بها (نسابا) اليه، فكان هذا الحوار:

لامفر من سؤال قد يبدوتقليدياً وأراه أنا عميقاً وأساسياً لكشف دوافع الكتابة لدي الشاعر، هل للشعر وظيفة؟ ماوظيفته؟ 

..... أعتقد أن هناك فرقاً جوهرياً بين دوافع الكتابة ووظيفة الشعر، الأولى سبب والأخرى نتيجة أو لنقل غاية، الأولى تخص الشاعر نفسه والأخرى تخصّ القارئ . الكتابة (كتابة الشعر تحديداً) هي فعلٌ اضطراريٌ غالباً، أي أن الشاعر يحتاج الى الكتابة لأنه لا يستطيع العيش بدونها. والعيش هنا فعلٌ وجوديٌ يتجاوز المعنى البيولوجي للكلمة. أحياناً أتساءل كيف يعيش من لا يكتب، إنه تساؤل يبدو غريباً حيث الغالبية من البشر هم ليسوا شعراء ولا كتاباً ولا يحتاجون كما يبدو إلى الكتابة، ويبدو أن الشاعر يعاني من مشكلة ما، يحاول حلّها بالكتابة. إنها مشكلة التواصل مع العالم الخارجي، مع الطبيعة وكائناتها، مع المدينة وناسها، كلّ شاعر يعاني في رأيي من غربةٍ ما ، وأنا شخصياً أكتب لأنتصر على هذه الغربة أو لأوهم نفسي بالانتصار عليها. خارج الشعر نحن مثقلون بقوانين العالم ومضطرون لتقنين استجاباتنا لما نرى ولما يحدث بطريقة مقبولة، أما في الشعر فنحن أحرار، وبالتالي فإن الوجود الحقيقي للشاعر هو وجوده داخل الشعر، لحظة الكتابة هي لحظة الحرية المطلقة والصدق الخالص، وكلاهما يكاد يكون مستحيلاً خارج الشعر. وإذا كانت الكتابة هي خلق لتلك اللحظة فإن قراءة الشعر هي استعادة لها، القراءة الحقيقية هي لحظة يشترك فيها كائنان لا يعرفان بعضهما غالبا في تجربة التحرر من ثقل العالم والصدق الخالص مع الذات. أليست هذه "وظيفة" مقدسة؟

كان عقد الثمانينيات العراقي عقد المطولات الشعرية، يكفي أن نستذكر أغنية الاله مردوخ ، حروف المصحح، أوبرا الأميرة النائمة، خزائيل ، لنتبين الجهد المحموم آنذاك لتكريس النص المطول الذي أريد له أن يكون مفتوحاً مع ما يستتبعه من تنافذ في الأجناس الكتابية، لكن ثمة رأي طرح حينها ومازال مطروحاً دون أن يُسمَع جيداً، مؤداه أن ان هذه المطولات أعفت الشاعر من الإهتمام بالجملة الشعرية ليتم التركيز علي بناء نص ، أو ربما كان كل ذلك فرصة اتيحت للشاعر ليتستر علي عيوب ما في أدائه، أجد ان كثيرا من نصوص ديوانك نصوص طويلة، هل هو إنسياق وراء تقليد كان مهيمناً في الشعر العراقي أم أن دافعاً آخر وراء ذلك؟ 

..... للشاعر الكبير أوكتافيو باث دراسةعن أشكال الشعر عبر العصور يوضح فيها مدى نسبية مفاهيم مثل القصيدة الطويلة أو القصيرة، ففي شعر عصر النهضة الأوربي مثلاً كانت القصيدة تبلغ آلاف الأبيات بينما يعتبر اليابانيون قصيدة من ثلاثين بيتاً قصيدة طويلة. وإذا أردتُ أن أتحدث عن قصائدي التي كتبتها في فترة شيوع النص المطول في الشعر العراقي فإني أراها قصائد متوسطة الطول وليست طويلة.

ولكن بعيداً عن هذه المقاييس ، أرى شخصياً أن القصيدة القصيرة، أو قصيدة الومضة لا تناسبني ، فأنا قليل الكتابة والنص يبدأ عندي بفكرة أو بصورة شعرية غائمة الملامح، ثم تتناسل وتكبر قبل وأثناء عملية الكتابة، وكل قصيدة عندي تأتي بعد انتظار طويل ومخاض ليس بالسهل، وأنشغل بها شهوراً، وتتزاحم أثناء ذلك أفكار كثيرة في ذهني، وبالطبع فإن قصيدة قصيرة من بضعة سطور لن تتسع لكلّ هذا.

أشرتَ في السؤال إلى رأي مؤداه أن المطولات أعفت الشاعر من الاهتمام بالجملة الشعرية ليتم التركيز على بناء النص، في المقابل هناك من يرى أن النص القصير يعفي الشاعر من الاهتمام ببناء النص لأن النص القصير لا يحتاج إلى مهارة كبيرة في بنائه. وفي رأيي أنّ أصالة موهبة الشاعر وقدراته الشعرية يمكن أن تظهر سواء في نص قصير أو طويل، ودائماً هناك شعراء بقدراتٍ متواضعة يهربون من عدم قدرتهم على بناء نصٍّ طويلٍ متماسك إلى قصيدة الومضة، كما أن هناك شعراء يهربون من عدم قدرتهم على التكثيف إلى المطولات، وأترك لقارئي أن يقرر ما إذا كنت أنا من هذا الصنف الأخير أم لا.  

النص الشعري العراقي بعامة ، ونصك يؤكد ذلك، نص مؤلم وعميق، وأحسب أنه نتاج للواقعة العراقية الفادحة ، الى م تؤول الواقعة في النص، كيف نقولها بلا خسارة للشروط الفنية، شخصياً أجد أن قلة أفلحوا في ذلك، هل تعتقد أن تجربتك قد اقترحت ترسيمة ما للتعاطي مع الواقعة شعرياً؟ 

..... أعتقد أن الواقعة العراقية الفادحة، وجيلنا عاشها عن قربٍ وبألم لا يوصف، لا بد أن تحضر في النص بقوة، وأعتقد في ما يخصني أن هذا الحضور الفادح وسم قصائدي بالسوداوية والحزن. أرى أن الواقعة القاسية هي امتحان شعري قاسٍ أيضاً، امتحان لقدرة الشاعر على الخروج منها بأقل ما يمكن من الخسائر الفنية. واعتقد أنني كنت دائماً واعياً لهذه الصعوبة وهو ما جنبني الوقوع في شرك الرثاء والبكائية.

ربما يحق لي أن أدعي أنني لم أقع في هذا الشرك ، وأنني نجحتُ إلى حدّ ما في إيجاد "مهربٍ" من هذه المحنة، إذ أنني احاول في نصوصي أن أُخرِج  الواقعة من واقعيتها لأجعلها مفردة من مفردات الصراع الكونيّ ، فبدلا من الحديث عن حربٍ بعينها، أكتب عن جدلية البناء والتدمير الذاتي التي رافقت الانسان طوال مراحل وجوده على الأرض، بدل الحديث عن منفى بعينه، أكتب عن منفى الانسان في هذا العالم. في أحد النصوص التي تضمنتها مجموعة "شتاء الأعزل" ترد كلمة "الطائرات" وقد كانت العبارة في الأصل "الطائرات الأمريكية" وهكذا نشرتْ في إحدى المجلات، لكني حين أعددت النصوص لغرض إصدارها في كتاب، حذفت كلمة "الأمريكية" لأني رأيت وجودها يتعارض مع تلك الآلية التي انتهجتها في كتابة الواقعة؛ تجريدها من واقعيتها المباشرة. 

 قلت لي أمس أن الشعر العراقي يشتمل علي فائض لغوي، مع أني أري أنه ومنذ نهاية الثمانينات هيمن اتجاه يجتهد في تحييد اللغة وجعلها ذات وظيفة أدائية محض، وأشيعت في الساحة الشعرية قصيدة الومضة التي تستبطن خيطاً حكائياً ما، وبالتالي ابتعدنا كثيراً عن البذخ اللغوي الذي وسم عقد الثمانينات، هل أنت في مرحلة مراجعة لما أنجز لدينا من أداء شعري تظن انه استنفد ؟ أم هي مراجعة لتجربتك أنت خاصة؟ 

.... أجل ، أنا في مرحلة مراجعة لما أنجز لدينا من أداء شعري، وأيضاً، بل وخصوصاً لتجربتي الشخصية، في عقد الثمانينات كنا نعيش وضعاً استثنائياً في قسوته، وأعتقد أن تلك القسوة المتطرفة كانت أحد الأسباب التي دفعت شعرنا إلى التطرف في جعل اللغة هدفاً شعريا في ذاتها، لأن اللغة كانت هامشنا الوحيد للحرية. ورغم خروجنا من المعتقل الكبير/الوطن، لم نتمكن بسهولة من ابتكار هوامش أخرى نتحرك فيها، كأن اللغة صارت سجننا المتنقل. لكني أرى الآن أن هذا الأمر قد بدأ يتغير، سواء داخل العراق أو خارجه، فالشعراء الذين ظهروا في العراق في الأعوام الأخيرة، تمكنوا بالفعل من الخروج من سجن اللغة، وابتكروا هوامش أخرى للتعبير وممارسة الحرية، لعلّ أهمها اعتماد المفارقة الساخرة، واللجوء إلى التفاصيل الصغيرة التي لا تفضح الواقعة الكبرى لكنها تشير إليها. أما الذين خرجوا في عقد التسعينات وما بعده فقد بدأوا أيضا في مراجعة تجاربهم والتخلص من "الفائض اللغوي" الذي أثقل الكثير من تجاربنا الشعرية الأصيلة. 

طرحتم في عدد من مجلة "واحد" مصطلح جيل مابعد الثمانينات ولقي اعتراضاً من كثيرين، أنا أحدهم، لأنه فضفاض اولاً، ولأن اعتقادي أن معظم شعرائه امتداد لما حفلت به الثمانينيات ذاتها من أسماء، أما زلت تصر علي تبني المصطلح الآن، خاصة مع وجود عدد من الشعراء الآن أطلقوا على أنفسهم اسم التسعينيين؟ 

.... أود بدءاً أن اشير إلى أنني شخصياً لم أتبنَّ المصطلح في حينها، في العدد الذي تشير إليه كان هناك ملف شعري بالعنوان الذي اشرتَ إليه، وأنا واحد من الذين أعدوا الملف وشاركوا فيه، وقد تضمن الملف شهادة لي لم استخدم فيها هذا المصطلح، بل على العكس أعلنت فيها تحفظي على فكرة الأجيال الشعرية عموماً. ويمكنك أن تصف موقفي آنذاك بالتردد وعدم الوضوح، لكني الآن أكثر وضوحاً، لا أؤمن بالتقسيم العقدي لأجيال الشعر، بل أؤمن بجدلية التواصل والانقطاع، عمودياً بين موجات متتابعة من موجات الشعر العراقي، وأفقياً مع التجارب الشعرية العربية ، وأعتقد أن اللجوء إلى التقسيم العقدي كان هروباً من المهمة التي كان على النقاد ومؤرخي الأدب القيام بها، أعني تحديد نقاط التواصل والانقطاع في مسيرة الشعر العربي الحديث. في العراق الآن شعراء يطلقون على أنفسهم جيل التسعينات، وأتوقع قريباً أن يعلن جيل الألفية عن نفسه، وستظلّ هذه المهزلة قائمة ما دام نقادنا قد استعذبوا الكسل. 

في مجموعتك (شتاء الأعزل) خيط سردي تنتظم فيه النصوص، ثمة الجمل الطويلة والنفس الحكائي أحياناً، أهو نتاج الرغبة في تجربة نص اللاشعر( بالإذن من صديقنا الشاعر كمال سبتي الذي أطلق المصطلح أواخر الثمانينات) الي أي حد أنت تؤمن بالدعوات الطامحة الي إجراء تغيير علي الشعر كنوع أدبي مميز؟ 

.... إجراء تغيير على مفهوم الشعر ليس دعوة طامحة، بل هو واقع قائم، فقد تغير الشعر نوعياً مراتٍ عديدة، وطالت بعض التغييرات عناصر جوهرية أو كان يعتقد أنها جوهرية ، كالوزن والقافية ، أو ارتباط الشعر بالغناء أو الانشاد، أو الغنائية عموماً، ولم تعد هناك طريقة واحدة لتوزيع الأسطر والمقاطع، ومزج بعضهم الشعر بالفنون التشكيلية، وآخرون بالفنون السردية. وهناك الآن تجارب عالمية  في ما يسمى بالشعر الصوتي، الذي يعتمد القيمة الصوتية للحروف والكلمات أكثر مما يعتمد قيمتها الدلالية. ولكن رغم كلّ تلك التغييرات يظل الشعر شعراً ، رغم صعوبة تحديد ما يجعله كذلك. وأعتقد أن دعوة الشاعر المتميز كمال سبتي ، وهو بالمناسبة شاعرٌ لم يسلطْ الضوء بعد على منجزه الشعري الذي هو في رأيي تجربة متميزة في الحداثة الشعرية العربية، أعتقد أن دعوته واستخدامه لمصطلح اللاشعر يجب أن لا يؤخذ بحرفيته، بل هو تعبير عن ضيق الشاعر بالحدود كلها، ورغبته في الخروج النهائي على السائد الشعري. بالنسبة لي لم تكن لدي رغبة قصدية بالخروج من حدود الشعر كجنس أدبي، لأني أعتبر الشعر اساساً فضاء مفتوحاً لممارسة الحرية، أتأمل حيناً وأغني حيناً  واسرد الحكاية في حيناً آخر، وقد تجتمع هذه الأمور كلها في نص واحد أو يبرز أحدها في نص دون سواه، أنا أكتب إذن "الشعر الحر" .  

لمن تود أن تقرأ دائماً، ومن تود أن يقرأك؟ 

.... أود أن أقرأ شعراً أو نثراً أرى فيه الألم الانساني، غربة الكائن في العالم، أحب الشعر أو النثر الذي يقترب من مناطق الضعف البشري ويعريها، ولا يهمني من هو الكاتب.

أود أن يقرأني من هو بحاجة لقراءتي، من يستطيع أن يلتقط خيوط الألم والأمل المبثوثة في النصّ ليعيد تشكيلها بما يناسب حاجاته الروحية، أود أن يقرأني شخص ما فيشعر أني كتبت ما يريد هو كتابته. وأنا متأكد من وجود هذا القارئ أو شيء منه وإليه أتوجه وأنا أكتب.

 

أجرى الحوارأحمد عبد الحسين